فصل: من فوائد الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إلا أَخَذَ الله عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ أنه إنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ فِي زَمَانِهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَيُوصِي أُمَّتَهُ بِذَلِكَ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ الْعَلِيِّ مَا لا يَخْفَى، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ أنه عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهِ فِي زَمَانِهِمْ يَكُونُ مُرْسَلا إلَيْهِمْ فَتَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ الأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَكُونُ قوله: «بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً» لا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ أيضا، وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» وَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِعِلْمِ الله بأنه سَيَصِيرُ نَبِيًّا لَمْ يَصِلْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى لأَنَّ عِلْمَ الله مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ وَوَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أنه أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِهَذَا رأى اسْمَهُ آدَم مَكْتُوبًا عَلَى الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله فَلابد أن يكون ذَلِكَ مَعْنًى ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِمَا سَيَصِيرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بأنه نَبِيٌّ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُ الله نُبُوَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ فَلابد مِنْ خُصُوصِيَّةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَجْلِهَا أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ إعْلامًا لأُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوا قَدْرَهُ عِنْدَ الله فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْخَيْرُ بِذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: أُرِيدُ أَنْ أَفْهَمَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ وَصْفٌ لابد أن يكون الْمَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بُلُوغِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أيضا. فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ إرْسَالِهِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ. قُلْتُ قَدْ جَاءَ أَنَّ الله خَلَقَ الأَرْوَاحَ قَبْلَ الأَجْسَادِ فَقَدْ تَكُونُ الإِشَارَةُ بِقوله: «كُنْتُ نَبِيًّا» إلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَالْحَقَائِقُ تَقْصُرُ عُقُولُنَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا خَالِقُهَا. وَمَنْ أَمَدَّهُ بِنُورٍ إلَهِيّ ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ يُؤْتِي الله كُلَّ حَقِيقَةٍ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ، فَحَقِيقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ آتَاهَا الله ذَلِكَ الْوَصْفَ بِأن يكون خَلَقَهَا مُتَهَيِّئَةً لِذَلِكَ وَأَفَاضَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَصَارَ نَبِيًّا وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالرِّسَالَةِ لِيَعْلَمَ مَلائِكَتُهُ وَغَيْرُهُمْ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ جَسَدُهُ الشَّرِيفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا وَاتِّصَافُ حَقِيقَتِهِ بِالأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ الْمُفَاضَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَضْرَةِ الإِلَهِيَّةِ حَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الْبَعْثُ وَالتَّبْلِيغُ لِتَكَامُلِ جَسَدِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّبْلِيغُ، وَكُلُّ مَالَهُ مِنْ جِهَةِ الله تعالى وَمِنْ جِهَةِ تَأَهُّلِ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ وَحَقِيقَتِهِ مُعَجَّلٌ لا تَأَخُّرَ فِيهِ وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاؤُهُ وَإِيتَاؤُهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ تَكَوُّنُهُ وَتَنَقُّلُهُ إلَى أَنْ ظَهَرَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ، مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ. وَلا نُمَثِّلُ بِالأَنْبِيَاءِ بَلْ بِغَيْرِهِمْ قَدْ يَكُونُ إفَاضَةُ الله تِلْكَ الْكَرَامَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ بِمُدَّةٍ كَمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتعالى، وَلا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فَالله تعالى عَالِمٌ بِهِ مِنْ الأَزَلِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ عِلْمَهُ بِذَلِكَ بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَيَعْلَمُ النَّاسُ مِنْهَا مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِعِلْمِهِمْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي أَوَّلِ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ يَتَّصِفُ بِهَا. فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ الأولى مَعْلُومَةٌ بِالْبُرْهَانِ وَالثَّانِيَةُ ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَبَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ وَسَائِطُ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى تَحْدُثُ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى مِنْهَا مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ حِينَ حُدُوثِهِ، وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالٌ لِذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى كَمَالٍ يُقَارِنُ ذَلِكَ الْمَحِلَّ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ وَإِلَى كَمَالٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلا يَصِلُ عِلْمُ ذَلِكَ إلَيْنَا إلا بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلْقِ فَلا كَمَالَ لِمَخْلُوقٍ أَعْظَمَ مِنْ كَمَالِهِ وَلا مَحَلَّ أَشْرَفَ مِنْ مَحِلِّهِ يُعَرِّفُنَا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ حُصُولَ ذَلِكَ الْكَمَالِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَذَ لَهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أُمَمِهِمْ لِيَعْلَمُوا أنه الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَرَسُولُهُمْ وَفِي أَخْذِ الْمَوَاثِيقِ وَهِيَ مَعْنًى فِي الاسْتِخْلافِ. وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ لامُ الْقَسَمِ فِي لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.
(لَطِيفَةٌ أُخْرَى): وَهِيَ كَأَنَّهَا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ لِلْخُلَفَاءِ وَلَعَلَّ أَيْمَانَ الْخُلَفَاءِ أُخِذَتْ مِنْ هُنَا فَانْظُرْ هَذَا التَّعْظِيمَ الْعَظِيمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ نَبِيُّ الأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الآخِرَةِ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ صَلَّى بِهِمْ؛ وَلَوْ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَمِهِمْ الإيمان بِهِ وَنُصْرَتُهُ. وَبِذَلِكَ أَخَذَ الله الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فَتَأَخُّرُ ذَلِكَ الأمر رَاجِعٌ إلَى وُجُودِهِمْ لا إلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَوَقُّفِ الْفِعْلِ عَلَى قَبُولِ الْمَحِلِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ فَهُنَا لا تَوَقُّفَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ، وَلا مِنْ جِهَةِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْعَصْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمْ إتْبَاعُهُ بِلا شَكٍّ، وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخَرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالَتِهِ، لا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أنه يَأْتِي وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ لِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ إتْبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الأُمَّةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إلَى أُمَمِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ وَتَتَّفِقُ مَعَ شَرَائِعِهِمْ فِي الأُصُولِ لأَنَّهَا لا تَخْتَلِفُ، وَتُقَدَّمُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَسَاهُ يَقَعُ الاخْتِلافُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ، إمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ أَوْ لا نَسْخَ وَلا تَخْصِيصَ بَلْ تَكُونُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الأَوْقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولَئِكَ الأُمَمِ مَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الأُمَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ، وَالأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَشْخَاصِ وَالأَوْقَاتِ. وَبِهَذَا بَانَ لَنَا مَعْنَى حَدِيثَيْنِ خَفِيَا عَنَّا أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً».
كُنَّا نَظُنُّ أنه مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَبَانَ أنه جَمِيعُ النَّاسِ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ كُنَّا نَظُنُّ أنه بِالْعِلْمِ فَبَانَ أنه زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ الْحَالُ بَيْنَ مَا بَعْدَ وُجُودِ جَسَدِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُلُوغِهِ الأَرْبَعِينَ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ وَتَأَهُّلِهِمْ لِسَمَاعِ كَلامِهِ لا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلا إلَيْهِمْ لَوْ تَأَهَّلُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَعْلِيقُ الأَحْكَامِ عَلَى الشُّرُوطِ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْفَاعِلِ الْمُتَصَرِّفِ فَهَاهُنَا التَّعْلِيقُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ وَقَبُولُهُمْ سَمَاعَ الْخِطَابِ وَالْجَسَدِ الشَّرِيفِ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِ وَهَذَا كَمَا يُوَكِّلُ الأَبُ رَجُلا فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَذَلِكَ الرَّجُلُ أَهْلٌ لِلْوَكَالَةِ وَوَكَالَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَقَدْ يَحْصُلُ تَوَقُّفُ التَّصَرُّفِ عَلَى وُجُودِ كُفُؤٍ وَلا يُوجَدُ إلا بَعْدَ مُدَّةٍ وَذَلِكَ لا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَأَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالله أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.

.من فوائد أبي السعود:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} منصوبٌ بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكرْ وقتَ أخذِه تعالى ميثاقَهم {لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} قيل: هو ظاهره وإذا كان هذا حكمَ الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى، وقيل: معناه أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم، واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم، وقيل: إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم، وقيل: المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضافِ وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكّمًا بهم لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون كانوا منا، واللام في {لَّمًّا} موطئةٌ للقسم لأن أخذَ الميثاق بمعنى الاستخلافِ، وما تحتملُ الشرطيةَ، ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط، وتحتمل الخبرية، وقرئ {لَّمًّا} بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجيء رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله الميثاقَ لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه، أو موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له وقرئ لَمّا بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالًا.
{قَالَ} أي الله تعالى بعدما أخذَ الميثاقَ {ءأَقْرَرْتُمْ} بما ذُكر {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى} أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ وقرئ بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل قالوا: {أَقْرَرْنَا} وإنما لم يُذكر أخذُهم الإصرارَ اكتفاءً بذلك {قَالَ} تعالى: {فَأَشْهِدُواْ} أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل: الخطابُ فيه للملائكة {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي وأنا أيضا على إقراركم ذلك وتشاهُدِكم به شاهدٌ، وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذيرِ ما لا يخفى.
{فَمَنْ تولى} أي أعرض عما ذكر {بَعْدَ ذَلِكَ} الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة، فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ، والجمعُ باعتبار المعنى كما أن الإفرادَ في تولى باعتبار اللفظ، وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على ترامي أمرِهم في السوء وبُعد منزلتِهم في الشر والفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ {هُمُ الفاسقون} المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزًا عن الحد. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت ذلك واختار السمين كونه معمولًا لأقررتم الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب {ءأَقْرَرْتُمْ} بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} [آل عمران: 42] كما نقله الطبرسي بعيد. واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية، وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم} الخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} خطأ من الكتاب وأن الآية كما قرأ عبد الله وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وقيل: المراد أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه؛ وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها وهي قراءة أبيّ بن كعب أيضا، وقيل: المراد وإذ أخذ الله ميثاقًا مثل ميثاق النبيين أي ميثاقًا غليظًا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفسه ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكمًا لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟ ا وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدًا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل بعد لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: {لَمَا ءاتَيْتُكُم} الخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان كما عليه البعض ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ماحل له إلا أن يتبعني» وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم.
وهذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابًا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه. اهـ.

.من فوائد الطاهر بن عاشور:

قال عليه الرحمة:
عطف {وإذْ أخذ الله} على {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة} [آل عمران: 80] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم لِيُبَلِّغوه إليكم، فالمعطوف هو ظرف {إذْ} وما تعلق به.
ويجوز أن يتعلق {إذ} بقوله: {أأقررتم} مقدمًا عليه.
ويصح أن تجعل {إذ} بمعنى زمان غير ظرف والتقدير: واذْكر إذْ أخذ الله ميثاق النبيين، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون {قال أقررتم} معطوفًا بحذف العاطف.
كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله: {قالوا أقررنا}.
ويصح أن تكون جملة {قال أأقررتم} وما بعدها بيانًا لجملة {أخذ الله ميثاق النبيين} باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاقَ النبيين: من أنّ النبيين أعْطَوْا ميثاقًا لله فقال: أأقررتم قالوا: أقررنا إلخ.
ويكون قوله: {لما آتيناكم} إلى قوله: {ولتنصرنه} هو صيغة الميثاق.
وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذنهم فيه بأنّ رسولًا يجيء مصدّقًا لما معهم، ويأمُرُهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليَكون هذا الميثاق محفوظًا لدى سائر الأجيال، بدليل قوله: {فمن تولّى بعد ذلك} إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}.
وبدليل قوله قال: {فاشهدوا} أي على أممكم.